الإمام أبو حنيفة النعمان
وكان أبو حنيفة يدعو أصحابه إلي الاهتمام بمظهرهم .. وكان إذا قام للصلاة لبس أفخر ثيابه وتعطر، لأنه سيقف بين يدي الله. ورأى مرة أحد جلسائه في ثياب رثة، فدس في يده ألف درهم وهمس: أصلح بها حالك "فقال الرجل" لست احتاج إليها وأنا موسر وإنما هو الزهد في الدنيا. فقال أبو حنيفة: أما بلغك الحديث: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده؟ وكان شديد التواضع، كثير الصمت، يقتصد في الكلام، ولا يقول إذا سئل، وإذا أغلظ إليه أحد أثناء الجدال صبر عليه. وإذا دخلت إليه امرأة تستفتيه قام من الحلقة وأسدل دونها سترا، ليحفظها من عيون الرجال، وأجابها عما تسأل .. نبع هذا التقدير الكبير للمرأة من حبه العميق لأمه، وحرصه الدائب على أن يرضيها، ثم من فهمه الواعي للإسلام، واتباعه اليقظ للسنة، واجتهاداته الذكية .. وقد قاده اجتهاده إلي الإفتاء بأن الإسلام يبيح للمرأة حق تولي كل الوظائف العامة بلا استثناء .. حتى القضاء!
ولقد كان في حرصه على إرضاء أمه. يحملها على دابة، ويسير بها الأميال، لتصلي خلف أحد الفقهاء يرى هو نفسه أن أبا حنيفا افضل منه، لأن الأم كانت تعتقد بفضل ذلك الفقيه! وكانت الأم لا ترضى بفتوى ابنها أحيانا، فتأمره أن يحملها إلي أحد الوعاظ، فيقودها إليه عن طيب خاطر .. ولقد قال لها الواعظ يوما: "كيف أفتيك ومعك فقيه الكوفة؟" ومع ذلك فقد ظل أبو حنيفة حريصا على إرضائها، لا يرد لها طلبا، حتى إذا عذب في سبيل رأيه، طلبت منه أمه أن يتفرغ للتجارة وينصرف عن الفقه وقالت له: "ما خير علم يصيبك بهذا الضياع؟" فقال لها: "إنهم يريدونني على الدنيا وأنا أريد الآخرة وإني أختار عذابهم على عذاب الله". ولكم تحمل أبو حنيفة من عذب!!
كان مخالفوه في الرأي يغرون به السفهاء والمتعصبين والمتهوسين ويدفعونهم إلي اتهامه بالكفر، وإلي التهجم عليه، فيقابلهم بالابتسام. ولقد ظل أحد هؤلاء السفهاء يشتمه، فلم يتوقف الإمام ليرد عليه، وعندما فرغ من درسه وقام، ظل السفيه يطارده بالسباب، والإمام لا يلتفت إليه، حتى إذا بلغ داره توقف عند باب الدار قائلا للسفيه: "هذه داري فأتم كلامك حتى لا يبقى عندك شيء أو يفوتك سباب فأنا أريد أن أدخل داري"..! كان خصوم أبي حنيفة صنفين: بعض الفقهاء ممن وجدوا انصراف الناس عن حلقاتهم إلي حلقة أبي حنيفة، وحكام ذلك الزمان. أما أعداء أبي حنيفة من الفقهاء فقد كان على رأسهم ابن أبي ليلى وتابعه شبرمة.
كان أعداؤه فقهاء للدولة في العصر الأموي، حتى إذا جاء العصر العباسي تحولوا إلي الحكام الجدد، واحتالوا عليهم بالنفاق حتى أصبحوا هم أهل الشورى، يزينون للحكام الجدد كل ما زينوه للحكام السابقين من طغيان وعدوان وبغي واستغلال وبطش بالمعارضين .. واصطنعوا من الآراء الفقهية، وقبلوا من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ما يسند الطبقة الحاكمة والمستغلين، وما يصرف الناس عنهم من أمور الدنيا، وعن سياسة حياتهم، لينقطع الناس إلي التقشف، ويتركوا مستغليهم يستبدون ويعمهون! وكان أبو حنيفة يحتفظ باستقلاله أمام الحكام فيحترم الحكام .. وهو يلبس أغلى الفراء في الشتاء، ويتحلى طوال العام بثياب فاخرة، ويتعطر، ويتنعم بالطيبات من الرزق، وبزينة الحياة التي أحلها الله لعباده .. وكان يقاوم كما قاوم أستاذه وصديقه الإمام جعفر الصادق من قبل بدعة تزيين التقشف والانصراف عن هموم الحياة، وترك الأمر كله لطبقة بعينها تملك وتستغل وتحكم وتستبد!
على أن ميل أبي حنيفة إلي الأئمة من آل البيت أوغر عليه صدور الأمويين والعباسين على السواء. ففي العصر الأموي قالوا "أن تكون كافرا أو مشركا خير من أن تكون علويا" .. وفي العصر العباسي توالت المحن على العلويين، وأبو حنيفة يفتي بأن العلويين أصحاب حق .. على أنه مال إلي العباسيين أول الأمر، وتوسم فيهم الخير، ولكنه إذ وجد الفقهاء الذين نافقوا الأمويين وزينوا لهم العدوان، هم الذين يشيرون على الخلفاء العباسيين، أصابته خيبة الأمل فيهم .. ثم أن العباسيين بطشوا بأبناء عمومتهم العلويين، فساء رأي أبي حنيفة في العباسيين. وأبو حنيفة على الرغم من سماحته لا يسكت عن خطأ الفقهاء من الذين جعلوا كل همهم نفاق الحكام وإرضاءهم .. كان بعضهم يفتي في المسجد إلي جوار حلقة أبي حنيفة، فإذا أخطأ انبرى له أبو حنيفة يكشف ذلك الخطأ ويعلن الصواب على الناس.
وكان ينتقد أخطأ ابن أبي ليلى نقدا أوغر عليه صدر الرجل .. حتى نقد حكما فاحش الخطأ فانفجر غضب ابن أبي ليلى .. "وذلك أن امرأة مجنونة قالت لرجل" "يا ابن الزانيين" فأقام عليها ابن أبي ليلى الحد في المسجد، وجلدها قائمة، وأقام عليها حدين: حدا لقذف الأب وحدا لقذف الأم. وبلغ ذلك أبا حنيفة فقال: أخطأ ابن أبي ليلى في عدة مواضع: أقام الحد في المسجد ولا تقام الحدود في المساجد. وضربها قائمة والنساء يضربن قعودا. وضرب لأبيه حدا ولأمه حدا، ولو أن رجلا قذف جماعة ما كان عليه غير حد واحد، فلا يجمع بين حدين. والمجنونة ليس عليها حد. وحد لأبويه وهما غائبان ولم يحضرا فيدعيا .. وذهب ابن أبي ليلى إلي الخليفة يشكو أبا حنيفة، واتهمه بأنه لا يفتأ يهينه، ويظهره للناس بمظهر الجاهل، وفي ذلك إهانة للخليفة نفسه لأن ابن أبي ليلى إنما ينوب عن الخليفة في القضاء ويحكم بين الناس..!
وأصدر الخليفة أمرا بمنع أبي حنيفة من التعليق على أحكام القضاة، وبمنعه من الفتوى .. حتى إذا احتاج الخليفة إلي رأي في أمر معقد لا يطمئن فيه إلي فتاوى الفقهاء من متملقيه، أرسل يستفتي أبا حنيفة، فامتنع عن الفتوى إلا أن يأذن الخليفة له في أن يفتي للناس جميعا. فأذن له. وعاد يفتي، وعاد ينتقد الأحكام!. وأراد الخليفة المنصور أن يكتب عقدا محكما فلم يسعفه الفقهاء الذين يصانعونه، فلجأ إلي أبي حنيفة فأملى العقد من فوره فأزرى الفقهاء من بطانة الخليفة بما صنعه حسدا من عند أنفسهم. ولكن الخليفة زجرهم، وصرح بأن أبا حنيفة هو أفقه الجميع، وإن كان يكره مواقفه وآراءه. وعندما وقع خلاف بين الخليفة المنصور وزوجته لأنه أراد أن يتزوج عليها، أراد أن يحتكما إلي فقيه، فرفضت الزوجة الاحتكام إلي قاضي القضاة ابن أبي ليلى أو إلي تابعه شبرمة أو إلي أحد الفقهاء من بطانة المنصور! وطلبت أبا حنيفة.
وعندما حضر أبو حنيفة أبدى الخليفة رأيه أن من حقه الزواج لأن الله أحل للمسلم الزواج بأربع، والتمتع بمن يشاء من الإماء مما ملكت يمينه. فرد أبو حنيفة: "إنما أحل الله هذا لأهل العدل. فمن لم يعدل فواحدة. قال الله تعالى:
{فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة}
فينبغي علينا أن نتأدب بأدب الله ونتعظ بمواعظه. وضاق الخليفة بفتواه. ولكنه أخذ بها. وخرج أبو حنيفة إلي داره. فأرسلت له زوجة الخليفة خادما ومعه مال كثير وأحمال من الثياب الفاخرة النادرة، وجارية حسناء، وحمار مصري فاره هدايا لأبي حنيفة. فقال أبو حنيفة للخادم: "أقرئها سلامي. وقل لها إني ناضلت عن ديني وقمت بذلك المقام لوجه الله. لم أرد بذلك تقربا إلي أحد ولا التمست به دنيا ورد الجارية الحسناء والثياب والمال والحمار المصري جميعا.
كان أبو حنيفة لا يقف عند النصوص، وإنما يبحث في دلالاتها، ويحاول أن يواجه بالأحكام ما يقع من أحداث، وما يتوقع حدوثه من الأقضية والحالات. الواقع والمتوقع هما ما كان يعني باستنباط الأحكام لمواجهتها إن لم يجد نصا في الكتاب أو السنة أو الإجماع. وكان يناصر الفقهاء ببديهة حاضرة يقلب الرأي على وجوهه، ويفترض، ويستقرئ ويستنبط، ويحسن الخلوص إلي الغاية، والخلاص من المأزق، ويلزم المناظر الحجة. وهو مع ذلك يقول: "ربما كان ما قلته خطأ كله، لا الصواب كله". ولقد اقتحم عليه الحلقة في يوم عدد من الخوارج على رأسهم قائدهم وفقيههم، وكان الخوارج يقتلون خالفيهم. وكانوا يقتلون من أقر علي بن أبي طالب على التحكيم. كان أبو حنيفة يؤيد عليا ويقره على التحكيم. وخيره شيخ الخوارج بين التوبة أو القتل، فسأله أبو حنيفة أن يناظروه، فرضى، فقال له "فإن اختلفنا؟ قال الخارجي نحكم بيننا رجلا .. فضحك أبو حنيفة قائلا: أنت بهذا تجيز التحكيم." فانصرف عنه الخوارج وتركوه سالما.
وكم مرة خرج من المأزق بسرعة بديهته وسعة حيلته وقوة حجته..! ولكنه لم يستطع أن يفلت من مصائد أعدائه من المرتزقة في بلاط الأمراء .. كانت صلابته، واحترام الحكام له، وإيثارهم إياه على الفقهاء المرتزقة من بطانتهم، تثير هؤلاء الفقهاء وتحرك حسدهم .. فأوغروا صدور الحكام حتى أوقعوا به. وحاولوا أن يقتنصوه بفضائله. إنه لشجاع في الحق .. وإذن فلينصبوا له شركا من جسارته وتقواه .. إن مواقفه في تأييد آل البيت لتؤجج غضب الحكام عليه. ثم كانت آراؤه تزيد سخطهم عليه اشتعالا: فقد نادى بالرأي إن لم يكن هناك نص في الكتاب أو السنة، واتجه في استنباط الأحكام إلي إلحاق الأمور غير المنصوص على أحكامها بما نص على حكمه في حدود ما يحقق مصلحة الأمة ويتسق مع عرف البلد وعاداته، إن لم تخالف هذه العادات والأعراف روح الشريعة أو نصوصها.